فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



القول الرابع: قال صاحب الكشاف ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بإمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب الكشاف وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته.
والقول الخامس: أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول: الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} فهذا الاحتمال خطر بالبال، والله أعلم بمراده ثم قال تعالى: {فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} قال صاحب الكشاف إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلًا للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله:
{وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60]، {فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} [طه: 112] وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول فإن قيل لهم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضًا قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملًا على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارىء لأهل الحشر: {هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} [الحاقه: 19] فظهر الفرق، والله أعلم ثم قال تعالى: {وَمَن كَانَ في هذه أعمى فَهُوَ في الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ونصر عن الكسائي ومن كان في هذه أعمى بالإمالة والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في رواية بالإمالة فيهما، قال أبو علي الفارسي الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الإمالة وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى أفعل من وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة والحاصل أن إدخال الإمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل، والله أعلم.
المسألة الثانية:
لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى: {وَمَن كَانَ في هذه أعمى فَهُوَ في الآخرة أعمى} عمى البصر بل المراد منه عمى القلب، أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان: القول الأول: أن المراد منه أيضًا عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه.
الأول: قال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرأ ما قبلها فقرأ {رَبَّكُمُ الذي يُزْجِى لَكُمُ الفلك في البحر} [الإسراء: 66] إلى قوله: {تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] قال ابن عباس من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة.
وثانيًا: روى أبو ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السموات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلًا وأبعد عن تحصيل العلم به وعلى هذا الوجه فقوله فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى فالعمى في المرتين حصل في الدنيا.
وثالثها: قال الحسن من كان في الدنيا ضالًا كافرًا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك ألبتة.
ورابعها: أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة.
وخامسها: أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة الله تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة فذاك هو المراد من العمى.
القول الثاني: أن يحمل العمى الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال: {ونحشرهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كذلك أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124 126] وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 97] وهذا العمى زيادة في عقوبتهم، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {ولقد كَرّمنا بني آدم..} فيه سبعة أوجه:
أحدها: يعني كرمناهم بإنعامنا عليهم.
الثاني: كرمناهم بأن جعلنا لهم عقولًا وتمييزًا.
الثالث: بأن جعلنا منهم خير أمة أخرجت للناس.
الرابع: بأن يأكلوا ما يتناولونه من الطعام والشراب بأيديهم، وغيرهم يتناوله بفمه، قاله الكلبي ومقاتل.
الخامس: كرمناهم بالأمر والنهي.
السادس: كرمناهم بالكلام والخط.
السابع: كرمناهم بأن سخّرنا جميع الخلق لهم.
{... ورزقناهُمْ من الطيبات}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أحله الله لهم.
الثاني: ما استطابوا أكله وشربه.
الثالث: أنه كسب العامل إذا نفع، قاله سهل بن عبد الله.
{وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلًا} فيه أربعة أوجه:
أحدها: بالغلبة والاستيلاء.
الثاني: بالثواب والجزاء.
الثالث: بالحفظ والتمييز.
الرابع: بإصابة الفراسة.
قوله عز وجل: {يوم ندعوا كل أناسٍ بإمامِهمْ} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: بنبيِّهم، قاله مجاهد.
الثاني: بكتابهم الذي أنزل عليهم أوامر الله ونواهيه، قاله ابن زيد.
الثالث: بدينهم، ويشبه أن يكون قول قتادة.
الرابع: يكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر، قاله ابن عباس.
الخامس: بمن كانوا يأتمرون به في الدنيا فيتبعونه في خير أو شر، أو على حق، أو باطل، وهو معنى قول أبو عبيدة.
قوله عز وجل: {ومن كان في هذه أعمى..} يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن الطاعة {فهو في الآخرة أعمى} عن الثواب. الثاني: ومن كان في الدنيا أعمى عن الاعتبار {فهو في الآخرة أعمى} عن الاعتذار.
الثالث: ومن كان في الدنيا أعمى عن الحق {فهو في الآخرة أعمى} عن الجنة.
الرابع: ومن كان في تدبير دنياه أعمى فهو تدبير آخرته أعمى {وأضل سبيلًا}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.
{كرمنا} تضعيف كرم، فالمعنى: جعلنا لهم كرمًا، أي شرفًا وفضلًا، وهذا هو كرم نفي النقصان، لا كرم المال؛ وإنما هو كما تقول: ثوب كريم، أي جمة محاسنه.
قال القاضي أبو محمد: رضي الله عنه: وهذه الآية، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان، والحيوان والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، وحملهم {في البر والبحر}، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره {في البر والبحر} جميعًا، والرزق {من الطيبات}، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب، ويأكلون المركبات من الأطعمة، وغاية كل حيوان أن يأكل لحمًا نيًا، أو طعامًا غير مركب، والرزق، كل ما صح الانتفاع به، وحكى الطبري عن جماعة أنهم قالوا: التفضيل هو أن يأكل بيديه وسائر الحيوان بالفم، وقال غيره: وأن ينظر من إشراف أكثر من كل حيوان، ويمشي قائمًا، ونحو هذا من التفضيل، وهذا كله غير محذق وذلك للحيوان من هذا النوع ما كان يفضل به ابن آدم، كجري الفرس، وسمعه، وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد وكرم الديك، وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله، وبه يعرف الله عز وجل، ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه، وقالت فرقة: هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس، من حيث هم المستثنون، وقد قال تعالى: {ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172] وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن به الآية، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي، وإنما صح تفضيل الملائكة من مواضعٍ أخر من الشرع، وقوله تعالى: {يوم ندعو} الآية، يحتمل قوله: {يوم} أن يكون منصوبًا على الظرف، والعامل فيه: فعل مضمر تقديره أنكر، أو فعل يدل عليه، قوله: {ولا يظلمون} تقديره {ولا يظلمون يوم ندعو} ثم فسره {يظلمون} الأخير، ويصح أن يعمل فيه {وفضلناهم}، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر؛ يا ليتني كنت ترابًا، ولا يعمل فيه {ندعو} لأنه مضاف إليه، ويحتمل أن يكون {يوم} منصوبًا على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعًا بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله: {فمن أوتي} إلى قوله: {ومن كان}. وقرأ الجمهور: {ندعو} بنون العظمة، وقرأ مجاهد: {يدعو} بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم.
وقرأ الحسن: {يُدعو} بضم الياء وسكون الواو، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب، يقلبون هذه الألف واوًا، فيقولون افعو حبلو، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن: {كل} بالرفع، على معنى يدعى كل، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن، أنه قرأ {يدعى كل} {أناس} اسم جمع لا واحد له من لفظه، وقوله: {بإمامهم} يحتمل أن يريد باسم إمامهم، ويحتمل أن يريد مع إمامهم، فعلى التأويل الأول: يقال يا أمة محمد، ويا أتباع فرعون، ونحو هذا، وعلى التأويل الثاني: تجيء كل أمة معها إمامها، من هاد أو مضل، واختلف المفسرون في الإمام فقال مجاهد وقتادة: نبيهم، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم، وقال ابن عباس والحسن: كتابهم الذي فيه أعمالهم، وقالت فرقة: متبعهم، من هاد أو مضل، ولفظة الإمام تعم هذا كله، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدي به في المقصد، ومنه قيل لخيط البناء إمام، قال الشاعر يصف قدحًا: [الطويل]
وقومته حتى إذا تم واستوى ** كمخة ساق أو كمتن إمام

ومنه قيل للطريق إمام، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله: {فمن أوتي كتابه بيمينه} حقيقة في أن يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان، وفي الشمائل لأهل الكفر، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار، وقوله: {يقرؤون كتابهم} عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها، وقوله: {ولا يظلمون فتيلًا} أي ولا أقل ولا أكثر، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور. كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] وكقوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] وهذا كثير ومعنى الآية: أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئًا، والفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر.
وقوله: {ومن كان}، الآية، قال محمد بن أبي موسى: الإشارة بهذه إلى النعم التي ذكرها في قوله: {ولقد كرمنا بني آدم} أي من عمي عن شكر هذه النعم والإيمان لمسديها، فهو في أمور الآخرة وشأنها {أعمى}.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل {أعمى} الثاني أن يكون بمنزلة الأول، على أنه تشبيه بأعمى البصر، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل، أي أشد عمى، والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني، وقال ابن عباس ومجاهد قتادة وابن زيد: الإشارة بهذه إلى الدنيا، أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى؛ إما أن يكون على حذف مضاف، أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون: فهو في يوم القيامة أعمى، على معنى أنه حيران، لا يتوجه له صواب، ولا يلوح له نجح، قال مجاهد: {فهو في الآخرة أعمى} عن حجته.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أن الإشارة بـ {هذه} إلى الدنيا، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى، لأنه قد باشر الخيبة، ورأى مخايل العذاب، وبهذا التأويل، تكون معادلة للتي قبلها، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه، وإذا جعلنا قوله: {في الآخرة} بمعنى في شأن الآخرة، لم تطرد المعادلة بين الآيتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {أعمى} في الموضعين، بغير إمالة، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه في الموضعين بإمالة، وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول وفتح الثاني، وتأوله بمعنى أشد عمى، ولذلك لم يمله، قال أبو علي: لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، و{أعمى} ليس كذلك لأن تقديره أعمى من كذا، فليس يتم إلا في قولنا من كذا، فهو إذًا ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل قوله عطفًا عليه {وأضل سبيلًا} فإنما عطف {أضل} الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيه به، وإنما جعله في الآخرة {أضل سبيلا}، لأن الكافر في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو، وهو في الآخرة، لا يمكنه ذلك، فهو {أضل سبيلًا}، وأشد حيرة، وأقرب إلى العذاب، وقول سيبويه رحمه الله: لا يقال أعمى من كذا كما يقال ما أبداه، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه، وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل، وذكر مكي في هذه الآية، أن العمى الأول هو عمى العين عن الهدى وهذا بين الاختلال، والله المعين. اهـ.